ربما يعتقد قسم من الباحثين أن الريادة موضوع تختص به حقبة زمنية بعينها دون غيرها ، أو هي مجرد تحقق لشكل شعري مغاير على يد هذا الشاعر أو ذاك ، نعم بات معروفاً أن السياب ومجايليه حققوا ريادة شكلت منعطفاً في حركة الشعر العربي ، إلا إن باب الريادة لم ولن يغلق ، إذ أن هذا الموضوع من الموضوعات المتجددة وكل شاعر يأتي بالجديد هو رائد في مجاله.
الشاعر محمود البريكان أحد أبرز شعراء الحداثة باجماع النقاد الذين تصدوا لشعره ، فقد حقق هذا الشاعر نقلات نوعية في القصيدة العربية الحديثة بدءاً من إعتماده على الجملة الشعرية المفتوحة على جميع الممكنات التعبيرية ومروراً بإلتفاتاته الى موضوعات لم يسبقه إليها أحد من الشعراء ، حيث أن السمة البارزة في شعر البريكان هي جدة الموضوعات، وبخاصة تلك التي كانت تعد من صميم الفلسفة، وبذلك كان شعره تقريراً لحقيقة إن المعرفة التي يقدمها الشعر لاتستطيع أن تقدمها الفلسفة، إن شعر البريكان مثلما يحثنا على التأمل الشعري بقوة فأنه يحثنا على تأمل أشياء تجاورنا ولم نولها عنايتنا أو كنا نعتقد أنها من شأن الفلسفة وغيرها .
إذا أردنا أن نصف البريكان شاعراَ نقول أنه أحد أقطاب الريادة الفنية في الشعر العربي الحديث وفي إعتقادنا أن هذه الريادة هي الريادة الحقيقية، إذ لايكفي أن يعاصر الشاعر زمن الريادة حتى يكون رائداً، إنه من الرواد الذين يقفون في صدارة المشهد الشعري ذلك لأنه عبر عن تجاربه بدقة متناهية ، فهو قد أدرك ومنذ وقت مبكر متطلبات العمل الشعري الخالص البعيد عن اللامبالاة ولذلك كان مثالاً للتجربة المسكونة بهاجس الشعر، التجربة الحاملة لكل ما يصل إليه الشعر من موضوعات جديدة ومبتكرة حتى صار الإبتكار هاجساً من السهل إكتشافه في شعره.
من أبرز ابتكارات البريكان ما كنت أطلقت عليه ( القناع الذهني) ، وهو أن ينحت الشاعر من ذهنه قناعاً يمنحه إنتماءً وهوية ثم يتحدث من ورائه ، وهو من أنماط القناع النادرة في الشعر العربي الحديث ، إذ لانجده إلا عند البريكان في ” هواجس عيسى بن أزرق في الطريق إلى الأشغال الشاقة /عام 1958 ” وعند أدونيس في مهيار الدمشقي في مطلع الستينيات من القرن العشرين ، وربما عند عدد قليل من الشعراء في تواريخ لاحقة.
لقد حقق البريكان ريادة فنية في هذه القصيدة إضافة الى ريادته التاريخية في استخدام القناع ، حيث ان تاريخ كتابة القصيدة يتقدم على معظم تواريخ كتابة قصائد القناع في الشعر العربي الحديث حتى عند روادها إضافة على ذلك فأن الكثير من قصائد القناع الأخرى عنده جاءت ناضجة ، وغنية بحمولاتها مثل ” حارس الفنار / أمنية القرد“.
في قصيدة ” هواجس عيسى بن أزرق ” قام البريكان بنحت قناعه من ذاته الأخرى، تلك الذات الخالية من التشوهات حتى يكون القناع كذلك ويكون قادراً على النهوض بمحموله الذي يعانيه وجه الشاعر ولذلك أرى أن هذا النمط من الأقنعة يمثل كسراً للمألوف الشعري مثلما يمثل ريادة البريكان ،فلقد استطاع البريكان وبفعل كثافة الصورة وتزاحمها أن يكشف عن حجم المعاناة التي يحملها القناع وهو يساق الى الأشغال الشاقة، ويمكن أن نقف على مفاصل أخرى في هذه القصيدة تدل على ريادة شاعرها ، فالقصيدة تتأسس بمعمار سردي يوظف صوت الشخصية وتحولات الأزمنة الداخلية ، ولذلك كانت القصيدة تعتمد على التداعيات ” المنولوج” في تقديم جملتها الشعرية التي تتلاحم مع العنوان ” هواجس” الذي يرتقي ليكون نص القصيدة .