جمنازيوم مدينة سلوقية دجلة
بقلم: أ.د. حسن حمزة جواد
تقع مدينة سلوقية دجلة جنوب العاصمة بغداد بنحو (30كم)، وإلى الشمال الشرقي من بابل بنحو (60كم)، وتتراوح أطلالها بين 500 إلى 600 هكتار، ويمكن الوصول اليها عن طريق ناحية الرشيد الواقعة جنوب بغداد، بالقرب من اليوسفية.
أسست سلوقية دجلة على يد الملك سلوقس الأول (312-286 ق.م)، لتكون عاصمة الامبراطورية السلوقية، ومنافس كبير للعواصم الهلنستية الأخرى، حققت المدينة البابلية الجديدة أهداف مؤسسها، إذ نمت وتطورت بسرعة، وتم الإشادة بها كثالث مدينة من مدن العالم القديم، جنباً إلى جنب مع مدينة الاسكندرية عاصمة البطالمة في مصر القديمة، وروما عاصمة الجمهورية الرومانية.
يعد الجمنازيوم مؤسسة يونانية حيوية يرتادها الشباب والشيوخ للتدريب الرياضي ومركز للتعليم داخل المدينة اليونانية، وللأسف لم تقدم البعثات التنقيبية في مدينة سلوقية دجلة أدلة دامغة حول هذه المؤسسة، مثلما قدمت البعثة الايطالية حول المسرح (تل عمر)، ولكن هناك مصادر أدبية جاء فيها اشارات واضحة حول وجود الجمنازيوم في مدينة سلوقية دجلة، كما احتوت مدينة بابل القريبة منها على هذه المؤسسة اليونانية، وهذا ما دلت عليه الاستكشافات الاثارية في المدينة، ومن ثم فأنه من المستبعد ان تكون سلوقية دجلة المدينة اليونانية، ذات الغالبية (في أول أمرها) المقدونية اليونانية تكون قد خلت من هذه المؤسسة.
ذكر (بليني) (أن مدينة سلوقية دجلة حرة ومستقلة، وما زالت تحتفظ بملامح العادات المقدونية)، يمكن تفسير مقولة (بليني) على ان سلوقية دجلة كانت تتمتع بحكم ذاتي، وتمارس فيها الحياة المقدونية التي هي بطبيعة الحال يونانية، لان البلاط السلوقي قد تبنى الحضارة أو الثقافة اليونانية، وبذلك فأن المدينة لا تخلو من الجمنازيوم، الذي هو أحد اركان الحياة اليونانية في المدن الهلنستية.
وهناك نصوص مسمارية ويونانية دلت على وجود الجمنازيوم او صالة الألعاب الرياضية (الباليسترا) في مدينة سلوقية دجلة، منها نص مسماري محفوظ في المتحف البريطاني، يعود تاريخه إلى سنة 163-162ق.م، جاء فيه إشارة إلى انه من حق بوليتاي (Politai) سلوقية دجلة، ان يدهنوا انفسهم بالزيت، والبوليتاي هم السكان المقدونيين واليونانيين، وغيرهم من المحليين، الذين لهم حق الحصول على المواطنة، من السكان البارزين في المدينة، القريبين من طريقة الحياة اليونانية، وارتبطت ممارسة دهن الجسم بالزيت في المشاركة بالجمنازيوم، والتدريب الرياضي للشباب، وتم التأكيد على وجود الجمنازيوم داخل المدينة أو صالة الباليسترا في القرن الثاني قبل الميلاد، من مشاركة رياضي المدينة في مسابقات رياضية مقامة في بلاد اليونان، ومن نص أخر يعود إلى العصر الفرثي، من القرن الأول قبل الميلاد اشارة غير كاملة إلى اسم جمنازيارخ (Gymnasiarch) سلوقية دجلة، وهو الشخص المسؤول او رئيس مبنى الجمنازيوم في المدينة.
يبدو من الواضح ان النصوص المسمارية واليونانية السالفة الذكر، على الرغم من قلتها إلا أنها تشير إلى وجود الجمنازيوم في المدينة، فأولئك المستخدمون للزيت والمشاركون في مسابقات اليونان، وذكر رئيس الجمنازيوم كلها أدلة تشير إلى وجود هذا المبنى داخل سلوقية دجلة، يمارسون فيه السكان هواياتهم وتدريباتهم الرياضية، لذلك شجعت هذه النصوص على ان ترجح البعثات الاثارية العاملة في سلوقية دجلة موقع الجمنازيوم، مع وجود الأدلة الاثارية التي تساعد على ذلك.
يعتقد (انفرينزي) ان جمنازيوم سلوقية دجلة متمثل بالموقع الذي حددته البعثة الاثارية الأمريكية من قبل على انه معبد، والمعروف بــ (المعبد A)، المتكون من 4 وحدات من الانسولا، لأنه ضم على جانبه ساحة كبيرة، خلت من المباني على طول تاريخها، ففسرت على انها الباليسترا، أي الساحة التابعة للجمنازيوم، وهو يشبه ما عثر عليه في جمنازيوم مدينة ايخانوم، وفسرت الساحة القريبة من مسرح مدينة بابل على انها جمنازيوم أو الباليسترا، على الرغم من عدم وجود اتفاق في ذلك.
وقد ذكر (فوزي رشيد) أن المسرح البابلي مكون من جزئين، أحدهما المسرح الدائري، وهو ذلك الجزء الذي يحتوي على اماكن جلوس المشاهدين ويتم فيه عرض المسرحيات، أما الجزء الثاني فهو المدخل إلى العالم السفلي، والمسرح البابلي بأجمعه يقوم مقام (بيت الاكيتو) في مدينة بابل. في حين اشار (واثق اسماعيل الصالحي) إلى انه ملعب واقع بقرب مسرح بابل، وهو يوناني في تخطيطه، على الرغم من بنائه بالأجر، ووصف بأنه فناء مكشوف محاط بصف من الأعمدة، وله أهمية كبيرة في حياة المجتمع اليوناني داخل مدينة بابل.
تمتع الموقع الذي رشحه (انفرينزي) (المعبد A) بأنه جمنازيوم سلوقية دجلة بعدد من المميزات، منها اتصاله الوثيق بالمناطق العامة والرئيسة في المدينة، مع احتوائه على ساحة مفتوحة وكبيرة، وأنه ليس مركزياً، أي وقوعه وسط المدينة، الا أنه يقع في الركن الشمالي الشرقي منها، وهي نقطة رئيسة، لأنها الجزء الرسمي من المدينة، الواقعة إلى الشمال من القناة المركزية، وهذا الموقع شبيه بموقع جمنازيوم مدينة الإسكندرية، لأنه وقع على الطريق الرئيس للمدينة، ويختلف عنه في أنه مركزي، أما ما موجود في سلوقية دجلة فهو واقع في ركنها الشمالي كما ذكرنا اعلاه، ممكن أن تقدم اعمال التنقيب من جديد في سلوقية دجلة أدلة على تأكيد هذا الموقع كجمنازيوم أو العكس.
وفي ما يخص جمنازيوم مدينة بابل فهناك نص يوناني كتب على لوح طيني عثر عليه في مدينة بابل، يعود إلى سنة 110-109ق.م، أي زمن السيطرة الفرثية يكشف هذا اللوح عن اسماء الفائزين في مختلف المسابقات الرياضية، وعن نشاط مؤسسة الجمنازيوم داخل المدينة، وان الاسماء تشير إلى أن الفائزين هم من المقدونيين واليونانيين، مع ذكر اسماء والقاب عوائلهم، ومن الممكن أن يكون هنالك من بين هؤلاء الفائزين سكان محليين أي بابليين، لأن هناك اعداد كبيرة منهم حملوا اسماء يونانية، وتأثروا بالحضارة اليونانية، وعاشوا وفق نمطها، أي أنهم دخلوا الجمنازيوم وشاركوا فيه وحملوا اسماء مزدوجة بابلية ويونانية، وهم ينتمون إلى الطبقة العليا من المدينة، ولأسباب عدة اتبعوا طريقة الحياة اليونانية. وان هناك أدلة أخرى تشير إلى وجود الجمنازيوم داخل مدينة بابل، وهو ما ذكر في اليوميات الفلكية البابلية، العائدة إلى سنة 169ق.م، أن (بوليتاي) المدينة كان لهم الحق في دهن أنفسهم بالزيت، للمشاركة في الجمنازيوم وفي المسابقات الرياضية.
ولم تذكر اسماء الألهة الحامية للجمنازيوم، المتمثلة بالإله هيرميس وهرقل (Hercules)، في قائمة الفائزين هذه في مسابقات الجمنازيوم من مدينة بابل، ويرجح (ستافرو) (Stavrou) أن يعود ذلك إلى أن الألهة اليونانية قد وقعت في طي النسيان، بعد ان دخلت المدينة في السيطرة الفرثية، فالنص كما اشرنا سابقاً يعود إلى سنة 110/109ق.م، ولم تعثر التنقيبات الاثرية في مدينة بابل على معبد يوناني، وجاء في اليوميات الفلكية البابلية تقديم المقدونيين واليونانيين والبابليين القرابين إلى معبد الايساكيلا، في السنوات 324-261ق.م، ويعتقد (ستافرو) أن عدم وجود معبد يوناني أو معبد لهرقل أو هيرميس يمكن أن يفسر بأن شباب الجمنازيوم قدموا القرابين بدلاً من ذلك في معبد الايساكيلا، لان المدينة احتوت على مختلف الكيانات العرقية، وسادت فيها سياسة التسامح والتعايش السلمي، ويرجح أيضاً حضور شباب أو مرتادي الجمنازيوم للاستماع إلى المحاضرات الفلسفية، لأن بعض الفلاسفة استخدم مبنى الجمنازيوم لألقاء المحاضرات الفلسفية في غرفً خاصة.
إذا كانت مدينة بابل الراسخة في تقاليدها العراقية القديمة لم تخلو من مؤسسة الجمنازيوم، ليمارس السكان اليونانيين والمقدونيين والعاشقين للحياة اليونانية من المحليين هواياتهم وتدريباتهم الرياضية، الذين كانوا أقل بكثير في اعدادهم من سكان سلوقية دجلة، فكيف يمكن ان تخلوا الأخيرة من هذه المؤسسة، التي وصفت بأنها مركز وركن من اركان حياة المجتمع اليوناني.
من الممكن أن يكون جمنازيوم مدينة بابل وسلوقية دجلة قد نضم المسابقات الداخلية بين المركزين، لقرب المسافة بينهما، ويكون جمنازيوم سلوقية دجلة أقوى وأكثر شهرة من ذلك الخاص بمدينة بابل، لان الأولى احتوت على نسبة كبيرة من السكان اليونانيين والمقدونيين، فضلاً عن انها كانت وبلا شك مركز استقطاب للمهاجرين، بما احتوته من مغريات للحياة اليونانية، المتمثلة في مؤسساتها اليونانية، ولا ننسى ثقل مدينة بابل الديني، المتمثل في معابدها، فمن المؤكد أن تكون حدت نوعاً ما عن انجراف الكثير من السكان نحو المؤسسات اليونانية ومنها الجمنازيوم، او ممارسة عادات وتقاليد اليونانيين، ويمكن أن يكون هناك نصيب اكبر للكشف عن جمنازيوم سلوقية دجلة، في حال أجرت البعثات التنقيبية اعمالها من جديد في المدينة.